هل تساوت الديمقراطية بالاستعمار.؟
هل تساوت الديمقراطية بالاستعمار؟
سؤال بدأ يؤرقني منذ أكثر من عام، يهيم بي إلى عوالم من القلق ويسيطر على كياني... يرعبني... حملته معي إلى المائدة ليختلط مع أحاديثي العامة العائلية دون شعور، وليفقدني بذلك متعة الاطمئنان على الأولاد وسير أمورهم في مدارسهم !؟.
شاركني فنجان قهوتي... صحفي... نزهاتي... عملي... قيادتي لسيارتي... شرائي لحوائج البيت ومستلزماته... احتكاكي مع العامة والخاصة... شاركني عطلاتي -على كثرتها- وهيمن على متعتي بمصاحبة العائلة ومشاركتهم يومياتهم واستجمامهم.
حتى أنه لم يتأخر من أن يغادر ليصاحبني في إجازتي السنوية، ويحل ضيفا ثقيلاً علي لمدة أكثر من شهرين، ليخطف من حياتي متعة العناية بالأشجار التي عشقتها والحديقة والزهور، ويقفز بي إلى أحاديث ساخنة وعلاقة مضطربة مع الأهل والأصحاب فأحال جلسات الود والشوق والاطمئنان عنهم إلى جلسات فذلكة وحوارات للطرشان.
ثم عاد معي وقد ازداد ثباتاً وقوةً مما لقيته وشاهدته وعايشته من خلاله على امتداد الوطن... إلى الطريق الطويل الذي قطعته مخترقاً بلدان شتى لها عاداتها وتقاليدها وثقافاتها وطريقتها في ممارسة الديمقراطية.
حتى أنه استوطن فراشي، وسرق النوم والهدوء من عيوني، وها أنا ذا استيقظ باكراً كعادتي لأكتب عنه بعد أن ألح لكي يكون الموضوع الأهم الذي يجب أن أتطرق له وأعالجه !؟.
وذلك لأننا بدأنا نشهد في أيامنا الأخيرة بعبع من نوع آخر، ونمور مخيفة وتنانين مرعبة، وربما مخلوقات تتجاوز كل خيال تلتصق بها، ويتم استخدامها في حجج واهية لمنعنا من الاقتراب منها، والتحدث بشأنها، حتى لا تحرمنا من الهناء الذي نعيشه، وتشوه بلداننا الآمنة النظيفة الهادئة التي نحيا بها ؟؟؟.
حتى أننا بدأنا نتوجس الخوف من مجرد لفظها لكي لا نتهم بالعمالة للخارج !؟.
فهل سنعاقب عليها كما كنا نعاقب على لفظنا للحرية ؟.
وما هي تلك الديمقراطية التي يخيفوننا بها ؟... وهل حقا أصبحت مرادفة للاستعمار والإمبريالية والصهيونية ؟.
وهل ولمجرد أن يكون الراعي الأمريكي والأوروبي وراءها يجعلها كلمة ومعنى مرفوض التعامل معها أو الاقتراب منها ؟.
وما هذه المهارة الغير عادية التي نتميز بها في خداع أنفسنا، وابتعادنا عن الحقيقة لكي نلبس هذه الكلمة الرائعة معان وقيم لا تمت إليها بصلة، فنتبجح بالقول بأن أميركا وأوروبا -وهما أبا وأم الديمقراطية الحديثة- غارقتان بالكذب والاحتيال على العامة ومرهونتين للآلة الصهيونية ومراكز ضغط المتعصبين وأصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى، وبأن هذا الذي نراه من ديمقراطيتهم ليس إلا تمثيل وهراء وكذب لا يستحق مجرد الالتفات إليه ؟.
ونمعن بالتأكيد على هذه النظرة الثاقبة في فهمنا نحن للديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، بآلاف الأمثلة عن عيوب وظلم الديمقراطية في الغرب، وما ألت إليه من سمسرة وصفقات مشبوهة وظلم اجتماعي، واضطهاد فكري وإعلام مأجور، وانتخابات مشتراة بحفنة من الدولارات ؟؟؟!!!...الخ .
وأخيرا وإذا ما صدقت كل تلك الحجج والأقاويل عنها، ما الذي يمنعنا نحن العرب من ممارسة شيء ما موجود لدينا منذ آلاف السنين، وكانت محور أولى الحضارات العريقة القديمة التي عرفتها بلداننا، منذ قوانين "حامو رابي" إلى لوائح السومريين والبابليين والآشوريين والفراعنة... والتي كانت تنظم حياة وعمل المواطنين وتحترم حقوقهم وتصون كرامتهم... مروراً بالنظم والقوانين التي حكمت القبيلة كمجتمع مصغر للأمة وما حوته من قيم وخلق قائمة على الشورى، قبل أن يأتي الإسلام ليهذبها وينقحها ويثبت دعائم العدالة الاجتماعية فيها.
فإذا كانت كلمة الديمقراطية مخيفة إلى هذا الحد، فلما لا نستعمل كلمة أخرى كالشورى تحمل إلينا الطمأنينة وتعود إلى النفوس الهدوء !؟.
وما الذي يهمني أنا كمواطن منها مهما اختلفت التسميات والمسميات حولها ؟.
وهل إذا ما تعرفنا على سلبيات ممارسة الديمقراطية بالغرب ينفي وجودها كحقيقة ملموسة لديهم ؟... من خلال المؤسسات والتي هي عصب الديمقراطية، لا يشوبها الغش ولا تمسها يد ضال أو عابث أو صاحب مال أو نفوز أو سلطة، لأنها محكومة ومراقبة من خلال الدستور والقوانين وسلطتيهما التشريعية والتنفيذية، وعمادها القضاء المستقل الذي لا يستطيع أي كان العبث به، لأنه هو قلب الديمقراطية وجهازها العصبي المسئول عن الحفاظ على الحياة فيها ؟.
ومن ثم أوليس وجود مراكز القوى وسيطرة أصحاب رؤوس الأموال هي من نتائج ممارسة هذه الديمقراطية فلماذا لا نستخدمها كما يستخدمونها ؟.
أم إننا ولمجرد فشلنا في تحقيق أي تقدم في هذا المضمار يدفعنا إلى التهجم عليها ورفضها !؟.
ولكي أكون أكثر وضوحاً ودقة سأصنف مطالب المواطن العادي منها وأتساءل:
-ما الذي يمنع المؤسسات في الدولة من صون المال العام ومحاسبة المسئولين عن هدره ؟.
-ما الذي يمنع من تواجد رأي آخر ونظرة أخرى عبر أحزاب ومنظمات مستقلة تساعدها على كشف العيوب ومحاسبة المقصرين ؟.
-ما الذي يمنع المواطن من حقه في ممارسة التجارة والصناعة والاستيراد والتصدير وضمن تكافؤ للفرص ومنافسة عادلة بعيدة عن المحسوبية والتسلط ؟.
-ما الذي يمنع من إعطاء الصحافة والإعلام ودور النشر حق التواجد المستقل ضمن القوانين المشرعة لذلك ؟.
-ما الذي يمنع من إعطاء القضاء استقلاله التام، لمحاسبة المقصرين والحفاظ على حقوق وكرامة المواطن في تطبيق العدالة والقانون، فلا يجعلون من خوفهم على مقاعدهم سبباً لتدخل أي كان في نزاهة قرارهم، فيجعلون من المحسوبية وعلاقات الصداقة والمصالح الشخصية دوراً في تحديد الظالم والمظلوم فيستعجلون في تعبئة السجون بدعاوى تافهة (كالسب أو المشاجرة أو الخلاف بين الجيران أو حتى بوشاية أو بدعوى متفق عليها بشاهد زور يختفي من الوجود بعد الإدلاء بشهادته) حفاظاً على تجارة رابحة في تحصيل الأجر عن مكان خال في زنزانة يتجاوز في قيمته- هذا إذا لم يضطر إلى دفع خلو عنه- أكثر من أسعار أرقى فندق في العالم ؟!.
-ما الذي يمنع مؤسسات الدولة من احترام القوانين؟.
فلا يطرق بابك موظف دون أن يعرف بنفسه ببطاقة تخوله تبليغك بما كلف به (كالضرائب، ومحضرون المحاكم والشرطة وشؤون العقارات والمالية...الخ) دون تهديد ووعيد وتسلط، وقد تتعرض للسرقة منهم بالابتزاز بتلفيق تهم الإساءة إلى موظفين الدولة ومرافقها فتضطر إلى الدفع... أو -بكل بساطة- لسرقة بعض الأجهزة الكهربائية التي تملكها، تحت ستار الحجز على الممتلكات دون إيصال، لتكتشف بعد ذلك بأنهم لم يكونوا إلا مجرد لصوص لا تستطيع حتى بعد العثور عليهم من ملاحقتهم لأنك لا تملك الدليل ؟ الخ .
وملايين الأسئلة إذا ما طلبت من أي مواطن عربي من المحيط إلى الخليج أن يعبئ بعضاً منها لما اتسعت له أي ذاكرة لأحدث كمبيوتر في العالم !؟.
اعني بكل بساطة إن ما يهم المواطن العادي والبسيط من الديمقراطية هو أن يجد فرصه في العيش الكريم مضمونة.
يعرف إذا ما ترك منزله صباحاً متوجهاً إلى عمله، بأنه سيجده ويعود منه غانماً بالحلال، وباًن بيته أثناء غيابه آمناً من تعدي الغير بدون وجهة حق، وبأن أولاده يغادرون إلى مدارسهم بألبسة ملائمة، ومحفظة تحتوي كل متطلبات تعليمهم في مدارس، نظيفة ومهيأة بأساليب الراحة فلا يسألوا عن مساهمات مالية لترميم مدرستهم، أو فرض إتاوات عليهم لشراء المازوت لتدفئتهم (لأن المخصصات المعتمدة لذلك إما سرقت أو لم تصل لخلو الخزينة من الاعتمادات لأهم مرفق حيوي لتربية أجيال المستقبل) وتهديدهم بالعقاب أو الطرد إن لم يمتثلوا لذلك ؟!.
وبأنه إذا ما تعرض هو أو احد أفراد عائلته للمرض، أو حادث عارض سيلقى العناية اللازمة دون أن يضطر للمداهنة والنفاق والرشوة، وسوء معاملة من موظفين لا يحسنون معاملة المريض، لأنه بالنسبة لهم ليس أكثر من شحاذ يتطبب على حساب الدولة ؟!.
هذا إذا ما استعصت حاله ليطلب العون عبر الصحف والإذاعات لنجدته أو التبرع لنجدة أطفاله !؟.
وبأنه سيلقى -إذا ما تقاعد وكبر- بعض الاحترام والتقدير لجهده الذي بذله للمجتمع مهما كان بسيطاً، وبأنه سينال قطعة أرض بسيطة تحتوي بدنه بعد وفاته دون أن يسأل أي من أفراد أسرته مستحقات دفن لا يملكونها.
أي ببساطة شديدة جداً أن تحترم كل دولة -على الأقل في الوقت الراهن- الدساتير التي تعمل عليها وآلاف القوانين التي تذيعها وتروج لها عبر وسائلها الإعلامية ابتداءً من حقوق الطفل إلى حقوق المرأة والإنسان.
بعد هذا أنا لا يهمني كمواطن من سيحكمني، رئيساً أم أميراً أم ملكاً أم حتى مواطن عادي لا يفهم من الإدارة والسياسة والاقتصاد من شيء، كما لا يهم المواطن الأوروبي والأمريكي من يحكمه، سواء كان حزباً يمينياً أو اشتراكياً، من الوسط أو من أقصى اليمين أو اليسار طالما أن الدستور والقانون من يدير البلاد، فيحفظ له كرامته وحقوقه وفرصه بالعمل والضمان الاجتماعي والصحي مصانة ومكفولة.
وأخيراً قد يتساءل بعضكم عن سبب هذا الحماس والجراءة في الطرح، لأقول بأنني وبكل بساطة لم آت بجديد، ولو صح لأحدكم التنقل عبر المحطات التلفزيونية والصحف الرسمية فهي غارقة بمثل هذه المناظرات والصراحة والمباشرة في طرح مثل هذه المواضيع، فلا تجدها إلا وهي تتحدث عن الفساد والمحسوبية وتبيض الأموال، والتسلط وكتم أنفاس المواطنين، وكأن الأمر لا يعنيها أكثر من نقل الخبر، والمقصود به حسب تصورها بلد آخر غيرها ؟؟؟!!!.
وهكذا يستمرون في دفن رؤوسهم بالرمال لا يرون إلا عيوب غيرهم ؟.
والى أن تتم الصحوة لكم مني أمنياتي بديمقراطية عربية على قياسهم !؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق